قصة ليزا "آخر يهودية" في لبنان

12/07/2019

وطن للأنباء: "الحب يا قلبي ..الحب." هكذا اجابتني، ليزا، 75 عامًا، يهودية لبنانية، عندما سألتها عن سبب رفضها لترك بلدها والذهاب مع أهلها إلى فلسطين المحتلة بعد نكسة عام 1967، حيث تعرضت البلدان العربية لهزيمة كبيرة أمام الاحتلال الاسرائيلي تلت الهزيمة استقالة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ذي الشعبية العظيمة في العالم العربي (قبل أن يتراجع عن الاستقالة لاحقاً).

في لبنان الذي عُرف تاريخيًا بإنقسامه السياسي اختلف الشعب بين فئة مؤيدة وفئة مناهضة لعبد الناصر، الفئة المؤيدة نزلت إلى الشوارع هتفت في وسط بيروت ومن أمام منازل اليهود "فلسطين بلادنا واليهود كلابنا." لحق ذلك اعتداءات على ممتلكاتهم وعليهم شخصيًا. كانت منطقة وادي أبو جميل المعروفة اليوم باسم "وسط بيروت التجاري" معقلاً للطائفة الموسوية اليهودية الذي كان معظم أتباعها من الأثرياء ويعملون في التجارة. بعد الحرب، تم احراق متاجرهم ورُميت الحجارة والقنابل الحارقة على منازلهم، حتى كنيس "ماغن أبراهام" المعبد اليهودي الأشهر والأهم في الشرق الأوسط (بحسب المراجع المتخصصة بتاريخ اليهود) لم يسلم من الاعتداءات كرد فعل.

في العام 2016 قررت إنجاز فيلم وثائقي عن ما بقي من يهود لبنانيين، واجهت صعوبة بالغة في إيجاد يهودي واحد يتكلم علنية عن حياته في لبنان، لكن محامي الطائفة الموسوية باسم الحوت، المكلّف متابعة وتحصيل إيرادات أملاكهم في لبنان، أرشدني إلى ليزا، التي اكتشفت أنها هي القصة.

وصلت بيت ليزا الصغير في الأشرفية ببيروت حيث استقبلتني بإبتسامة بريئة تحمل الكثير من الحب "أهلين يا إبني." وكان سؤالي الأول حتى قبل أن أجلس "ليزا لماذا بقيتِ هنا؟" أجابت بشيء من السخرية والفكاهة: "الحب يا قلبي ..الحب." حضّرت ليزا القهوة التركية التي تعشقها كما تخبرني، رجلسنا في غرفتها نرتشفها ونتحدث عن قصة هذا الحب: "يوليو عام 1969 لن يمحى من ذاكرتي حتى يوم وفاتي.كان عمري 21 لما قررت عيلتي الهجرة من لبنان، البابا الله يرحمو قرر أنو خلص ما إلنا عيشة بلبنان."

بعد نكبة فلسطين عام 1948 عانى اليهود العرب بشكل عام من الاضطهاد وتصاعد ذلك بعد النكسة. في لبنان، تناقص عدد اليهود من قرابة الـ5 آلاف شخص في الستينات الى نحو 3 ألف في مطلع السبعينات، وأصبح بالمئات في العام 1975. وبعد اجتياح لبنان من جيش الاحتلال في عام 1982 بقي فقط 30 شخصًا من الطائفة، لم يبق منهم اليوم سوى 5 أشخاص اليوم مسجلين، ولكنهم لا يعيشون في لبنان أو لا يعترفون بطائفتهم. حين هاجر اليهود وبحسب ملفات سجلاتهم ومصادر تاريخية موثقة في لبنان، لم يغادر سوى 20% منهم إلى فلسطين المحتلة، معظم يهود لبنان هم اليوم في فرنسا وكندا وأمريكا وإسبانيا. والد ليزا كان واحدًا من هؤلاء الذي سافر إلى قبرص سرًا مع عائلته لكن بعد سنوات انتقل إلى فلسطين المحتلة.

"سأخبرك يا ابني شو صار،" وتبدأ ليزا بسرد قصتها: "والدي كان تاجر أقمشة معروف أسمه إيزاك سرور، صاحب مجموعة محلات لبيع الأقمشة في حي اليهود بمنطقة وادي أبو جميل (السوليدير حالياً) وانا خريجة أهم مدرسة في بيروت الأليانس، التي كانت لأبناء الطائفة اليهودية. أمي فيوليت كانت تعزف البيانو وتعمل بالخياطة، أبي كان متديّن جدًا وشقيقتي وداد كانت أصغر مني وكان حُلمها أن تصبح مطربة لعذوبة صوتها. شقيقي موريس هرب في عام 1968 من لبنان، بعد أن تعرّض للضرب أكثر من مرة. كان في سن الـ20 حين أخرجه والدي من لبنان إلى فرنسا، أما مارسيل فكان عمره 17 سنة، أي سنة دخوله إلى الجامعة حين قرر الرحيل مع العائلة."

تكمل ليزا قصتها وهي ترتشف قهوتها: "في العام 1969 عندما قررت عائلتي ترك لبنان، هربت واختبات عند صديقتي كي لا أذهب معهم إلى قبرص. لم أكن أمتلك هذا الحس الوطني، الحب هو الذي دفعني للبقاء في لبنان. لكن بعد الحرب العام 1982 أصبح لبنان هو السبب لوجودي فيه."
تبدأ حكاية ليزا التي تصلح أن تكون نص فيلم أو مسلسل درامي. تعود ليزا بذاكرة 49 سنة إلى الوراء: "كان يوم أربعاء من شهر يوليو في العام 1969 وكانت الساعة تشير إلى السادسة أو السابعة عند الغروب حين وصلت باخرة الأربعاء الأخيرة إلى مرفأ بيروت" - أطلق على هذه الباخرة الاسم لأنها كانت تأتي كل نهار أربعاء على مدار 3 أسابيع تنقل بطريقة سرية يهود لبنان إلى عدة جهات منها قبرص واليونان ودول اخرى مجاورة بينها فلسطين المحتلة.

"كان الجيران في حي وادي أبو جميل من المسلمين والمسيحيين يتفاجأون كل يوم بتناقص جيرانهم اليهود،" تقول ليزا وتضيف" "في تلك السنة قرر والدي بيع محلاته بطريقة سريّة وسريعة، لكنه لم يفلح ببيع منزلنا في وسط بيروت. ولكنه أصر على السفر وأبلغنا قبل يوم واحد من السفر بأن سيارة تاكسي لتنقلنا إلى مرفأ بيروت، للسفر بالباخرة."

تضحك ليزا وهي تتذكر تفاصيل هروبها: "أنا كنت جهلانة، حابة شاب مسلم متل القمر، طويل عريض، أسمر هيك بجنن، قلت بدي إتجوزو، ما بدي لا أهلي ولا سافر مطرح، كان عمري يا دوب 21 سنة وصلاح كان الحلم. قبل ساعات من مغادرة عائلتي المنزل هَربت مع بعض الأغراض الشخصية، وذهبت إلى منزل صديقتي. أعلم أن ما فعلته بأهلي شيطاني وأناني بس كنت طايشة. بعثت رسالة اعتذار مع أحدهم إلى منزل والدي قبل موعد السفر بساعات قليلة. كنت متاكدة أنهم لن يلغوا السفرة لأن الوالد قد باع كل شيء باستثناء المنزل- كان يظن أنه سيعود يومًا ليسترجعه."

هل صلاح هو من دفعك للبقاء في لبنان من أجله؟ أجابتني ليزا بصوت مرتفع: "لا لا حرام ما خصو، انا قررت ضل، ما كنت عارفة كيف قررت وليش، وشو ناطرني، قرار مجنون متلي." كيف تعرفتي عليه سألتها؟ "يا سيدي تعرفت على صلاح خلال زيارتي المتكررة لشقيقته هند، وكنت أراه ووقعنا في الحب. كنت بحب الشحرورة صباح كتير، كانت مثالي الأعلى للمرأة الحرّة المجنونة والانيقة، أحب أغنياتها كلها، منها تأثرت وقررت أن أعيش مغامرة حتى لو كانت خاسرة."

تسترجع ليزا تلك اللحظات بحنين: "حين قررت الهرب من أهلي، لم أفكر الذهاب إلى منزل صلاح من باب الكبرياء لم أرغب أن تنظر عائلته لي بدونية لأنني تخليت عن أهلي. لجأت إلى صديقة مسلمة أخرى، ساعدني أهلها وفرحوا بي." أول شيء فكرت به ليزا بعد الهروب وسفر عائلتها كان البحث عن عمل كي تعيل نفسها، وساعدها صلاح بذلك، وبعد فترة عادت إلى منزل أهلها الذي بقيت فيه حتى العام 1977.

كان بديهياً أن أسالها لماذا لم تتزوجا؟ بإجابة فيها الكثير من الأسى: "لك أنا لو رحت على البحر بينشف،" ثم تكمل: "أرغم صلاح على تركي حين قرر دخول الكلية الحربية، كان ينوي الارتباط بي، لكن معروف في لبنان أن الضباط لا يحق لهم الزواج من أي طائفة من بينها أبناء الطائفة اليهودية، لذا كان عليه اختياري أو إختيار حلمه، وكان الأخير."

تضيف ليزا وهي تدافع عنه: "الله يرحمو لم يتركني رغم كل الظروف، نعم لم نستطع الزواج لكن ذلك لم يمنع من استمرار علاقتنا، وكان دائمًا إلى جانبي لكن في العام 1975 بدأت الحرب الأهلية واشتدت جدًا في العام 1977 فهربت من منزلي بسبب القصف وهو هرب مع عائلته. انقطعت الاتصالات بيننا، والتقينا بعد سنتين، وعلمت أن عائلته تريد تزويجه من فتاة مسلمة، وهذا ما حصل، فابتعدت عنه."

في العام 1982 اجتاح جيش الاحتلال لبنان، حاول ضباط الاحتلال المرسلين من قبل أرييل شارون الذي كان حينها ضابطًا كبيرًا في جيش الاحتلال أن يقنعوا من بقي من يهود في لبنان الرحيل معهم، ولكن ليزا رفضت هذا العرض: "خلال تلك المدة، توفي والدي ووالدتي لم يعد لدي شيء. شقيقتي تزوجت وانتقلت إلى أميركا، لم يبق سوى موريس الذي يعيش في حيفا، ولكن أنا اختلف معه في السياسة، رغم أني أحبه وهو من لحمي."

لا تستطيع سوى أن تُحب ليزا، فهي صاحبة قلب طيب وعفوية: "أنا كركوبة شوي بنفش شعري وبحط غراض هون وهون." سألتها شو عملتي بعد صلاح؟ غمزتني وهي تبتسم: "تزوجت من رجل مسيحي كان اسمه ريمون وبقيت معه 15 سنة، قبل أن يتوفى في عام 2001. لكن بقيت على ديانتي، أنا يهودية وأفتخر بذلك ولا أخاف من أحد، رغم أني أسمع كل يوم شتيمة بحق اليهود بسبب الأوضاع في فلسطين وسابقًا في جنوب لبنان. بس أنا بعشق السيد حسن نصرالله لأنو ضرب إسرائيل وبحاربها؟ يجب أن يعرف كل لبناني بأن اليهودي ليس صهيوني، كما أن ليس كل مسلم داعشي، وليس كل مسيحي عُنصري."

السؤال الذي ربما على بال الجميع، هل ندمت ليزا على هذا القرار، هل هي سعيدة فعلاً في لبنان؟ "أنا بحب لبنان، روحي معلقة فيها. أنا لبنانية أباً عن جد." كيف تعيش سألتها؟ "اشتغلت سكرتيرة في كذا شركة، وضبيت شوية مصاري، وجوزي تركلي مبلغ بسيط فتحت دكان، وطلعي تعويض عن بيت أهلي لان بعدو باسم البابا الله يرحمو. هلق عايشة بهالبيت صحيح صغير ومكركب بس ما في غير أنا والبسينات (القطط). آخرتي رح موت شو رح آخد معي. آخرتي بمقبرة اليهود مطرح ما مدفونة عمتي سلطانة حبيبة قلبي بدي أندفن حدّها."

 

المصدر: فايس "vice"