تصفية النشطاء الاجتماعيين والبيئيين لماذا؟

10/10/2019

وطن للأنباء- جورج كرزم

أثارت آلاف الحرائق التي استعرت مؤخرا في غابات الأمازون المطيرة غضبا دوليا كبيرا، لكن وسائل الإعلام العالمية لم تتطرق تقريبا لجوهر أزمة الأمازون والمتمثلة أساسا في أن العصابات والمافيات والبلطجية هي المسيطرة الفعلية على مساحات واسعة في منطقة الأمازون، وهي تعمل لصالح جهات حكومية وأصحاب مصالح كبار وشركات زراعية ضخمة تمارس الاجتثاث المكثف لأشجار الأمازون؛ بل لا تتورع تلك العصابات والجهات عن ملاحقة وإرهاب وقتل عشرات الناشطين البيئيين سنويا في البرازيل، لتهميش وإخراس أصواتهم الكاشفة للفساد والجرائم والمدافعة عن السكان الأصليين في مناطق الغابات.

نشطاء البيئة والمناضلون الاجتماعيون في البرازيل يتهمون الرئيس البرازيلي بلسُنارو وبعض الجهات الحكومية السابقة لعهده بالتواطؤ مع الشركات والعصابات؛ لاجتثاث الأشجار وإزالة الغابات.

اغتيال الناشطين المدافعين عن البيئة في العالم لا يقتصر على البرازيل فقط، بل يمتد إلى بلدان عديدة أخرى.  فبحسب التقرير السنوي الصادر مؤخرا عن المنظمة الدولية Global Witness المقيمة في لندن، لا يزال عدد الذين تمت تصفيتهم مرتفعا ومثيرا للقلق، بالمقارنة مع سنة 2017؛ علما أن هبوطا طفيفا حدث في عدد الضحايا (القتلى).  الفلبين تحديدا تجاوزت البرازيل في حجم الاغتيالات، و"فازت" بلقب الدولة الأكثر دموية في العالم ضد حماة البيئة المدافعين عن أراضيهم وبيئتهم.

وأفاد التقرير بأن أكثر من ثلاثة مدافعين عن البيئة في المتوسط، قتلوا أسبوعيا في العالم خلال سنة 2018، وبلغ إجمالي عدد القتلى في ذات العام 164.  مؤلفو التقرير أشاروا إلى المخاطر المستمرة التي تواجه الأشخاص الذين يستهدفون في نضالاتهم المشاريع والنشاطات المدمرة للبيئة، مثل المناجم واجتثاث الأشجار وكبار المزارعين الكيميائيين والصيادين.

عام 2017 سجل رقما قياسيا في حالات القتل في العالم بلغ 201 (من رواد البيئة)، ويعزو مؤلفو التقرير الانخفاض النسبي في الاغتيالات عام 2018 إلى الأهمية الكبرى التي توليها لهذه القضية منظمات الشعوب الأصلية والمنظمات غير الحكومية والأمم المتحدة ووسائل الإعلام.  منظمة Global Witness تقول بأن العديد من الشركات والحكومات أصبحت تميل، بشكل متزايد، لاستخدم أساليب غير فتاكة لمحاربة معارضيهم من النشطاء الاجتماعيين والبيئيين، بما في ذلك التمييز والتهديدات؛ ورغم ذلك فإن ارتفاع معدل قتل المدافعين عن البيئة لا يزال مقلقا.

ولأول مرة منذ بدء التوثيق السنوي لحالات قتل المدافعين عن البيئة في العالم، لم يتم إدراج البرازيل في رأس القائمة، علما أن عدد المدافعين عن البيئة الذين قُتلوا عام 2018 في أميركا الجنوبية بلغ 20 شخصًا- بانخفاض قرابة الثلثين عن عام 2017 حينما قُتِل 57 شخصًا. ويعزى هذا الانخفاض، جزئيًا، إلى الانخفاض العام في معدل جرائم القتل بالبرازيل، وكذلك إلى زيادة الاهتمام الدولي بهذه المسألة.
العديد من القتلة تم توظيفهم من قبل شركات احتكارية كبيرة؛ بل إن بعضهم وُظِّفوا من قبل حكومات التقت مصالحها مع مصالح الاحتكارات في استغلال الأراضي لأغراض اقتصادية.

برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)- وهو منظمة تروج للأنشطة البيئية في البلدان النامية- دعا العام الماضي إلى ممارسة المزيد من الضغوط على الحكومات في جميع أنحاء العالم لحماية المدافعين عن البيئة.  كما عقدت المنظمة الأممية مؤتمرا في "ريو دي جنيرو" يهدف إلى تعزيز الاعتراف بحق الإنسان في بيئة صحية.  علاوة على ذلك، بادرت وسائل الإعلام العالمية، بما في ذلك صحيفة الجارديان البريطانية، إلى تغطية هذه القضية على نطاق واسع، من خلال نشرها مجموعة من التقارير حول المدافعين عن أراضي الشعوب الأصلية والبيئة.

تقول منظمات الشعوب الأصلية بأنها ساهمت في انخفاض معدلات جرائم قتل المدافعين عن البيئة، بسبب وجود آلية أفضل للإبلاغ عن الجرائم في المناطق النائية التي ربما لم يتم الإبلاغ عنها سابقًا.
نشطاء البيئة يخشون بأن يكون انخفاض عدد جرائم قتل المدافعين عن البيئة في البرازيل مؤقتا، وذلك في ظل استماتة الرئيس البرازيلي بولسونارو لإضعاف حقوق الشعوب الأصلية في أراضيهم، ولتفكيك الأنظمة القانونية التي تضمن حماية المحميات الطبيعية في البلاد.  ففي أواخر تموز الماضي فقط، قُتل أحد زعماء قبيلة "فايبي" الأصلية في المحمية التي كان يعيش فيها بولاية "أمابا" في شمال البرازيل؛ وبعدئذ غزا عشرات عمال مناجم الذهب غير الشرعيين قريته وهَجَّروا سكانها (فلسطينيا، بماذا تذكرنا هذه الجرائم؟).

جرائم قتل منظمة
خلال العام 2018، قتل ثلاثون مدافعا عن البيئة في الفلبين، بالمقارنة مع 48 قتلوا خلال عام 2017.  ثلث جرائم القتل تم تسجيلها في جزيرة "ميندناو" التي تستهدفها بقوة  مخططات حكومة الرئيس الفلبيني "رودريغو دوترتا" لتخصيص 16 ألف كيلومتر مربع من الأراضي للأغراض الصناعية.  واللافت أن نصف جرائم القتل في الفلبين كانت مرتبطة بالزراعة.

في المستوى العالمي، يتحمل قطاع التعدين ومناجم المعادن حصة الأسد في عدد جرائم قتل المدافعين عن البيئة خلال سنة 2018 والتي بلغت 43 جريمة.  لكن الزيادة الأكبر سجلت في جرائم قتل الأشخاص الناشطين في مجال حماية مصادر المياه- من 4 ضحايا خلال عام 2017 إلى 17 خلال عام 2018؛ علما أن معظم حالات القتل سجلت في غواتيمالا، في سياق النزاعات حول إنشاء محطات الطاقة الكهرومائية.
وتقدر منظمة Global Witness بأن العدد الحقيقي للمدافعين عن البيئة الذين قتلوا في العالم، أعلى من المعطيات التي بحوزتها، لأن العديد من جرائم القتل لم يبلغ عنها أصلا.  وأشارت المنظمة أيضا إلى تزايد استخدام المحاكم كأداة لسحق الحركات المعارضة للمشروعات الاقتصادية الخطرة بيئيا. 

العديد من بلدان العالم- من البرازيل إلى الهند، تعطي الأولوية لمصالح الشركات، قبل أي اعتبار يتعلق بحماية البيئة وحقوق الإنسان؛ ما يؤدي إلى زيادة احتمالية تفاقم الصراعات حول الأراضي.  وهذا يتماشى مع القمع المتفشي عالميا ضد الاحتجاجات الاجتماعية والحركات المطالبة بحرية التعبير- ابتداء من الدول التي تزعم بأنها "منارة" الديمقراطية مثل الولايات المتحدة وفرنسا، وانتهاءً بالصين وروسيا. استخدام المحاكم لتجريم حماة البيئة يعد إحدى الأدوات المستخدمة في دول الجنوب والشمال على حد سواء، لقمع الأشخاص الذين يشكلون تهديداً لمراكز القوة وأرباح الشركات الكبرى والحكومات.

وبالعودة إلى تصفية زعيم قبيلة "فايبي" في البرازيل (أواخر تموز الماضي)، نجد أن الجريمة نفذت بطريقة بشعة، إذ تعرض الأخير للطعن حتى الموت وألقيت جثته في النهر. سيناتور برازيلي معارض وأبناء قبيلة المغدور يتهمون الرئيس بولسونارو بالقتل وبغزو عشرات من عمال المناجم لقرية قبيلة "فايبي"، محذرين من سفك الدماء بالمنطقة.  عصابات البلطجة المسلحة لم تكتف بجريمة القتل، بل إثر طعن زعيم القبيلة ببضعة أيام، اجتاح قريته ("ماريري" في شمال البرازيل) عشرات عمال مناجم الذهب وهم يرتدون زيا عسكريا، واستولوا عليها بعد تهجير سكانها الأصليين.

مقتل زعيم القبيلة في قرية "ماريري" حدث بالتوازي مع غزو عمال المناجم وقاطعي الأشجار للمناطق المحمية التي يعيش في بعضها السكان الأصليون، وذلك بتشجيع فاضح ومكشوف من بلسونارو اليميني المتطرف ذي النزعة الفاشية، الذي يروج بأن "المجتمعات الأصلية تسيطر على مناطق شاسعة يجب فتحها أمام الصناعات المحلية ومراكمة رؤوس الأموال منها". والمفارقة أن بلسونارو ذي النزعة الاستعمارية-العنصرية البيضاء، وعلى خلفية الحرائق الضخمة المتعمدة التي استعرت في غابات الأمازون، اتهم الرئيس الفرنسي "ماكرون" بأنه يتصرف بعقلية استعمارية.  بلسونارو شَبَّه مؤخراً السكان الأصليين بأهل ما قبل التاريخ؛ ففي مقابلته مع وسائل الإعلام المحلية تحدث عن المحميات الطبيعية الغنية بالمعادن في البرازيل وحث "العالم الأول" (الدول الرأسمالية الصناعية) على "استكشاف هذه المناطق".

ورغم ازدياد عمليات غزو أراضي الشعوب الأصلية في جميع أنحاء البرازيل، إلا أن قتل قادة السكان الأصليين يعد أمرًا نادرًا جدا.  التنقيب غير الشرعي عن الذهب يعتبر ظاهرة واسعة الانتشار في منطقة الأمازون.  أنشطة "الجريمبريوس"، أي عمال المناجم غير الشرعيين، تلوث الأنهار وتدمر الغابات في المنطقة.
أخيرا نشير إلى أن قبيلة "فايبي" عاشت، منذ مئات السنين، في عزلة بمناطق شمال البرازيل وغويانا الفرنسية، وفي السبعينيات شُرِعَت أبواب "الحضارة" أمامها بعد أن شيدت الحكومة البرازيلية طريقًا جعل منطقة سكنهم في متناول عمال المناجم وفئات خارجية أخرى.  وفي عام 1996  تم تعريف أراضي القبيلة باعتبارها محمية طبيعية.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية