أسماء سلامة تكتب لـوطن: فضفضة

14/01/2020

هل من أحد لم يسمع بالمثل الفلسطيني القائل " صحيح لا تقسم ومقسوم لا تأكل وكل لتشبع " ؟
قمة التعجيز ، والمعنى في النهاية الاستحالة . لم أصل بالشعور لدرجة العجز ، ولكن شعرت بالضيق الشديد عندما اصطحبت بناتي قبل يومين ( مشوار عائلي) إلى أسواق مدينة رام الله ،مع بداية العام الجديد ونهاية العطلة الخاصة بالمدارس ومنصف الشهر تقريباً ، ورغم برودة الجو قررنا الخروج للأسواق ،، السوق يعني مشتريات .. البضائع المعروضة من كل صنف ولون ولكنها ليست بمختلف مستويات الأسعار بل غالبيتها غالية .. اشتري ما تريد .... الجودة العالية تعني سعراً خيالياً .. نريد الجودة ولا نستطيع الدفع .. موجود في الأسواق الإسرائيلية وبأسعار منافسة جداً وجودة عالية ،، ولكننا نرفض ذلك نريد دعم اقتصادنا الوطني ،، موجود الكترونياً وبأسعار منافسة ولكننا نخاف المجازفة بالجودة ،، نريد أن نرى قبل أن نشتري ،،

قصة صحيح لا تقسم .... في النهاية نصاب بالإحباط ونشعر بأننا غير قادرين على تلبية متطلبات أبنائنا ، ونلجأ للتحايل  ومحاولة الخروج من المأزق ،، هذا للشهر القادم وهذا غير ضروري وهكذا

غذاء العقل لم يسلم من الغلاء ، عند ارتيادنا لأحد المكتبات لشراء بعض الكتب ، كانت الصدمة الحقيقية وزيادة الضيق ، عندما اختارت ابنتي كتاباً من أمهات الكتب كما يقولون ، وهي التي اعتادت شراء الكتب من مدخراتها ، فإذا بسعر الكتاب يقارب الستين دولاراً ، راقبتها وهي تمسك بالكتاب في إحدى يديها وتمسك مجموعة أخرى من الكتب في اليد الأخرى وتحاول الاختيار ، تنازلت عن الكتاب الذي كانت تبحث عنه لأن ميزانيتها لا يمكن أن تغطي هذا السعر الباهظ لكتاب واحد وقررت شراء مجموعة من الكتب (مع العلم أن مجموع ثمنها قارب أربعين دولاراً ) . لم الكتب غالية لهذا الحد ، ولم لا يوجد من يدعم أسعارها لتصبح في متناول الساعين إلى الثقافة ، ألا يمكن أن تقوم وزارة الثقافة مثلاً باختيار مجموعة من الكتب ذات القيمة الأدبية الكبيرة كل عام ، وتقوم بطباعتها وطرحها للبيع بأسعار مناسبة ؟؟ ، ألا يمكن أن يفرض على المكتبات ودور النشر المشارِكة في معارض الكتاب حداً أعلى للأسعار الموضوعة للكتب ؟؟ كم كان مؤلماً الذهاب إلى معرض الكتاب في دورته الأخيرة ومشاهدة طلبة بملابس المدرسة وهم يمسكون بالكتب ويسألون عن ثمنها ويعجزون عن الدفع فيقومون بإعادتها بنفس منكسرة وفي عيونهم حسرة، نريد من أطفالنا أن يمارسوا القراءة  ويشاركوا في مسابقات وينموا عقولهم ويبتعدوا عن الالكترونيات ويعودوا لخير جليس في الزمان ، ونضع أسعار تعجيزية للكتب فلا يستطيعون شراءها .

كتب في الأسواق لا يمكنك شراءها ، وكتب على الانترنت ولكن لا تقرأها حاول الرجوع للكتاب الأصلي ، وكن قارئاً ومثقفاً ،،، عدنا لمقسوم لا تأكل ....

بعيداً عن الحالات الخاصة ، وبالنظر بشكل عام  لفئات الشعب الفلسطيني ، الرواتب محدودة ( ومجمّدة ) لا زيادات تذكر ، والغلاء في ازدياد مضطرد ، الأسعار باتجاه واحد ( للأعلى ) ، يرتفع سعر السلع ولا ينخفض ، ومهما قل الطلب على السلع فإن سعرها لا يتأثر ( كأسعار الشقق مثلاً ) عدد مهول من الشقق الفارغة في مدينة رام الله تحديداً ، والبنايات قيد الإنشاء كثيرة ، ولكن الأسعار ثابتة .
هذا فصل جديد من قصة مثلنا الفلسطيني ( الصحيح والمقسوم ) .. راتب محدود وغلاء معيشة الأكبر في المنطقة وطموحات وأحلام وآمال ورغبات  ،، ومطالبة بالبقاء والصمود ....... هل من سبيل فعلاً ؟؟ العائلة الفلسطينية من الطبقة المتوسطة  بحاجة لأخصائيين في الأمور المالية ليستطيعوا وضع موازنات تفي بالاحتياجات الضرورية لها  وتتناسب مع مستوى دخلها  ، دون أن تصاب هذه الميزانية بالعجز ...

طبقات المجتمع الفلسطيني لم تعد كالسابق ، طبقة أصحاب الدخل العالي جداً ( رؤوس الأموال ) ، ثم الطبقة  المتوسطة ( والمفترض أن تكون الفئة الكبرى ) ، والطبقة الأقل حظاً وهي فئة مستوري الحال ( والذي يفترض أن تكون الأقل في المجتمع ) ، بات هناك توسع في طبقتين على حساب الطبقة الثالثة ، الطبقة الوسطى تتضاءل ، زادت فئة الأغنياء ، وفئة المستورين على حساب متوسطي الدخل ، نسبة من أفراد الطبقة الوسطى تعلقوا بأذيال طبقة الأغنياء مستغلين قروضاً وتسهيلات بنكية للحاق بطبقة النخبة متحملين فوائد هائلة ومديونيات لسنوات في سبيل الرقي الطبقي والاجتماعي ، وما تبقى من الطبقة الوسطى باتوا يصارعون للحفاظ على مستوى معيشي مقبول دون الحاجة للتنازل عن بعض الأمور الضرورية ، هذه الفئة التي بأغلبيتها العظمى الآن تعمل لصالح البنوك ( لسد أقساط القروض المختلفة ) ، ومن لم يستطع منهم أن يفي بالتزاماته اضطر إلى الاستغناء عما يملك ، ويعلن الاستسلام وينزل للفئة الأقل حظاً التي زادت نسبتها بشكل ملحوظ ....

من طبيعتي التفاؤل ، وأنتقد أحياناً من يسلطون الضوء على سلبيات المجتمع ، ولكنني أثناء تفاؤلي ، ورؤيتي للنصف الملآن من الكأس ، لا أنسى أن هناك نصفاً فارغاً ، لست متناقضة ولكن غالبية الأمور تحمل في جوهرها تناقضات ، الأغنياء يقابلهم فقراء في نفس المجتمع ، والأصحاء يقابلهم المرضى ، والشرفاء يقابلهم الفاسدون ، والناجحون يقابلهم الفاشلون ،، هذه هي طبيعة المجتمع . ناهيك عن التناقض داخل النفس البشرية الواحدة ، فالأم التي تحضن ابنها وتخاف عليه هي نفسها من تعاقبه إذا أخطأ ، وتلك النفس التي تميل إلى حماية أفراد عائلتها وتوفير احتياجاتهم هي نفسها القادرة على ارتكاب جريمة إن اضطرت للدفاع عن نفسها ، في كل نفس جانب من الخير وآخر من الشر ولكن العبرة في غلبة أي الجانبين على الآخر ومدى انقياد النفس له فتكون السمة الغالبة ،،  إما نفساً يعمها الخير أو يطغى عليها الشر . أرى الإيجابي وأتفاءل دوماً ولكن لا يمكن أن أتجاهل السلبي كلياً وأحذفه من الوجود .. فوجوده واقع لا يمكن إنكاره ، وإن كنت أرغب في قتله .. لم تكن إلا مجرد فضفضة ...